تحديات المحكمة الجنائية الدولية- هل تصمد في وجه ضغوط ترامب؟

المؤلف: مارك كيرستين09.27.2025
تحديات المحكمة الجنائية الدولية- هل تصمد في وجه ضغوط ترامب؟

تُواجه المحكمة الجنائية الدولية، باعتبارها المؤسسة القضائية الدولية الدائمة الوحيدة المكلّفة بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، منعطفًا حاسمًا يمثل اختبارًا غير مسبوق لقدرتها على الصمود. فمع تولي إدارة ترامب زمام الأمور، وظهور بوادر فرض عقوبات على المحكمة وموظفيها، يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري: هل ستتمكن المحكمة الجنائية الدولية من الحفاظ على وجودها واستقلاليّتها خلال السنوات الأربع القادمة؟

لقد أثَرتُ هذا السؤال المُلِحّ بعد حضوري فعاليات جمعية الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية، وهو المؤتمر الدبلوماسي السنوي الذي يجمع الدول الأعضاء في المحكمة. وقد انعقد هذا الاجتماع في أجواء مشحونة، بينما كانت التحديات تلقي بظلالها القاتمة – معنويًا وماديًا – على مدينة لاهاي الهولندية، حيث يقع مقر المحكمة الجنائية الدولية. فالعقوبات تلوح في الأفق، وربما أسرع مما يتصوره البعض.

وتشير المعطيات إلى أن الولايات المتحدة قد لا تتريث حتى تنصيب دونالد ترامب رسميًا، بل قد تُبادر إلى ربط العقوبات بمشروع قانون تفويض الدفاع الوطني، وهو التشريع الذي يُحدد الميزانية السنوية لأنشطة واشنطن العسكرية وإنفاقاتها الدفاعية.

وينعقد الأمل لدى أنصار المحكمة على أن تستهدف العقوبات كبار المسؤولين في المحكمة، دون المساس بالمؤسسة ذاتها. ففي تقديرهم، تستطيع المحكمة الصمود أمام العقوبات المفروضة على بعض موظفيها، ولكن إذا طالت العقوبات المؤسسة بأكملها، فقد تكون التداعيات وخيمة وواسعة النطاق.

فعلى سبيل المثال، كيف سيتمكن محققو المحكمة والمسؤولون من التنقل والسفر؟ وكيف ستتمكن المحكمة من دفع رواتب العاملين فيها، إذا امتنعت البنوك والمؤسسات المالية عن التعامل معها خشية الوقوع تحت طائلة العقوبات؟ وماذا عن الأدوات والبرامج الضرورية، مثل برنامج Microsoft Word، الذي يعتمد عليه القضاة في صياغة الأحكام؟

تجدر الإشارة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تواجه فيها المحكمة الجنائية الدولية عقوبات أمريكية. ففي الأشهر الأخيرة من ولاية ترامب، فُرضت عقوبات على عدد من موظفي المحكمة، بمن فيهم المدعية العامة آنذاك، فاتو بنسودا من غامبيا. ولكن هذه المرة، تواجه المحكمة – وأنصارها – احتمال التعرض لإجراءات قسرية من جانب واشنطن لمدة أربعة أعوام.

وحتى لو استهدفت العقوبات موظفين محددين في المحكمة، فإن ذلك سيسلط الضوء مجددًا على التوجهات التمييزية والعنصرية المتأصلة في الإدارة الأمريكية الجديدة. فموظفو المحكمة المنتمون إلى دول الحلفاء الغربيين لديهم فرص أفضل للتفاوض واستثناء رعاياهم من العقوبات، مقارنة بزملائهم من دول الجنوب.

إن التحدي الذي يواجه المحكمة شديد الخطورة. فعليها أن تتجنب التصعيد مع الولايات المتحدة، مع الحفاظ على استقلاليتها ونزاهتها، وفي الوقت نفسه تجنب إضفاء الشرعية على سياسات ترامب.

في ظل هذه الظروف، يصعب تصور كيفية تحقيق هذه المعادلة الصعبة.

دعونا نتخيل السيناريو التالي: في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، تفرض إدارة ترامب عقوبات على كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية. وعلى الفور، تتخذ المحكمة الإجراءات الضرورية وتؤكد أن هذه العقوبات لن تثنيها عن القيام بواجبها. وتتكاتف الدول الأعضاء لدعم المؤسسة. وتستمر المحكمة في عملها، ويطلب المدعي العام إصدار مذكرة اعتقال بحق وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الضفة الغربية.

وعلى نطاق واسع، سيُنظر إلى هذه الخطوة على أنها القرار الصائب والمستقل الذي كان ينبغي على المحكمة اتخاذه. ولكن البيت الأبيض الغاضب سيرد بتصعيد العقوبات ضد المحكمة ككل، ومطالبة حلفائه بفرض عقوبات مماثلة على المحكمة، بل والتهديد بفرض رسوم جمركية باهظة بنسبة 30% على التجارة مع الدول التي ترفض الامتثال.

هذا السيناريو ليس مجرد ضرب من الخيال، بل هو احتمال واقعي تمامًا. فالسيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، زعم بالفعل أن دولًا مثل كندا وفرنسا وألمانيا، يجب أن تُعاقب بسبب دعمها للمحكمة الجنائية الدولية. فإذا حدث هذا، فهل ستتمكن المحكمة من الصمود؟ وهل ستستطيع الدول الأعضاء تحمل هذه الضغوط الهائلة؟

في الماضي، استطاعت المحكمة أن تصمد أمام التدخلات الأمريكية، خاصة في سنواتها الأولى عندما واجهت معارضة شرسة من إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. وفي نهاية المطاف، أدركت الولايات المتحدة أن المحكمة لا تشكل تهديدًا لمصالحها، خاصة عندما استهدفت المحكمة قادة مثل جوزيف كوني، زعيم جيش الرب للمقاومة، أو الرئيس السوداني السابق عمر البشير.

وعلى العكس من ذلك، كانت المعارضة الأمريكية الصاخبة لمحاكمة مرتكبي الفظائع الشهيرة تعيق مصالحها أكثر مما تخدمها. حتى إن وزيرة الخارجية السابقة، كونداليزا رايس، وصفت نهج إدارتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية بأنه كان بمثابة "إطلاق النار على أقدامنا".

ولكن الوضع الراهن يختلف تمامًا، فالمحكمة تقف الآن في مواجهة مباشرة مع المصالح الأمريكية، خاصة بعد إصدار مذكرات الاعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق، يوآف غالانت. وهذه المذكرات لن تختفي، كما أن المعارضة الأمريكية لن تزول.

كيف يمكن للمحكمة أن تضمن بقاءها واستمرارها؟

يعتمد بقاء المحكمة في نهاية المطاف على الدول التي أنشأتها. ففي المقام الأول، يجب على هذه الدول أن تعترف بأن الظرف الحالي يمثل تهديدًا وجوديًا لمؤسستها. وعليها أن تعي أن التهديدات الصادرة عن واشنطن حقيقية، وستظل قائمة في المستقبل القريب، وأن ترد بإجراءات استباقية لحماية المحكمة. وينبغي عليها أن تبذل قصارى جهدها لعزل المحكمة وموظفيها عن العقوبات.

بالإضافة إلى ذلك، يجب على الدول أن تذكّر الولايات المتحدة بأن معاقبة المحكمة بسبب مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت سيقوض الجهود المبذولة لتحقيق العدالة في الحالات التي تتفق فيها المصالح الأمريكية مع المحكمة، مثل أوكرانيا وميانمار المدعومة من الصين وفنزويلا.

وكلما فرضت واشنطن تدابير قسرية جديدة على المحكمة، يجب أن يسمع صانعو السياسة الأمريكيون أصوات الضحايا الأوكرانيين والروهينجا والفنزويليين الذين ستتضرر جهودهم من العقوبات المفروضة على المحكمة.

أما بالنسبة للمحكمة، فيجب ألا تخضع لدولة سعت لفترة طويلة إلى تقويض استقلاليتها وقابليتها. ولكنها تستطيع أن تظل قوية وتواجه العداء الأمريكي بطرق إستراتيجية. على سبيل المثال، يمكن للمحققين دراسة إمكانية رفع قضايا ضد قادة إيرانيين بسبب ارتكابهم فظائع. وهذا الأمر ليس فقط الخطوة الصحيحة، ولكنه يجعل من الصعب على ترامب وغراهام وغيرهم انتقاد المحكمة ككل.

لا شك أن المحكمة الجنائية الدولية ستستمر في الوجود خلال السنوات الأربع المقبلة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل ستخرج من هذه الأزمة كظل باهت لما كانت عليه، أم كهيئة أكثر كفاءة وفاعلية؟

إن الإجابة على هذا السؤال تكمن في قيادة المحكمة والدول التي تدعي دعمها، والتي يجب عليها الآن أن تثبت هذا الدعم بكل الوسائل الممكنة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة